فصل: تفسير الآية رقم (86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} [المائدة: 85].
قرأ الحسن: {فآتاهُمُ اللَّهُ}: من آتاه كذا، أي: أعطاهُ، والقراءةُ الشهيرةُ أوْلَى؛ لأنَّ الإثابةَ فيها مَنْبَهَةٌ على أنَّ ذلك لأجْلِ عملٍ؛ بخلاف الإيتاء؛ فإنه يكونُ على عملٍ وعلى غيره، وقوله تعالى: {جَنَّاتٍ} مفعولٌ ثانٍ لـ {أثَابَهُمْ}، أو لـ {آتاهُمْ} على حسب القراءتَيْنِ.
و{تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} في محلِّ نصبٍ صفةً لـ {جَنَّاتٍ}.
و{خَالِدِينَ} حالٌ مقدرةٌ.
قوله تعالى: {وذَلِكَ جَزَاءُ} مبتدأ وخبرٌ، وأُشِيرَ بـ {ذَلِكَ} إلى الثواب أو الإيتاء، و{المُحْسنين} يُحتمل أن يكون من باب إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمرِ، والأصل: {وذَلِكَ جَزَاؤهُمْ}، وإنما ذُكِر وصفُهم الشريفُ مَنْبَهَةً على أن هذه الخَصْلَةَ محصِّلة جزائِهِمْ بالخَيْرِ، ويُحْتَمَلُ أن يرادَ كلُّ مُحْسِنٍ، فيندرجُون اندراجًا أوليًّا.
والمُرَادُ بالمُحْسِنينَ: المُوَحِّدين المُؤمِنِين. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (86):

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر سبحانه وتعالى جزاء المطيعين المبادرين إلى الإذعان ترغيبًا، ذكر جزاء من لم يفعل فعلهم ترهيبًا فقال: {والذين كفروا} أي ستروا ما أوضحته له عقولهم من الدلالة على صحة ما دعتهم إليه الرسل {وكذبوا} أي عنادًا {بآياتنا} أي بالعلامات المضافة لعظمها إلينا {أولئك} أي البعداء من الرحمة {أصحاب الجحيم} أي الذين لا ينفكون عنها، لا غيرهم من العصاة المؤمنين وإن كثرت كبائرهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أولئك أصحاب الجحيم} يفيد الحصر، أي أولئك أصحاب الجحيم لا غيرهم، والمصاحب للشيء هو الملازم له الذي لا ينفك عنه، فهذا يقتضي تخصيص هذا الدوام بالكفار، فصارت هذه الآية من هذين الوجهين من أقوى الدلائل على أن الخلود في النار لا يحصل للمؤمن الفاسق. اهـ.

.قال القرطبي:

{والذين كَفَرُواْ} من اليهود والنّصارى ومن المشرِكين {وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أولئك أَصْحَابُ الجحيم} والجحيم النار الشديدة الاتقاد.
يقال: جَحَم فلان النار إذا شدّد إيقادها.
ويقال أيضًا لِعَين الأسد: جَحْمَة؛ لشدّة اتقادها.
ويقال ذلك للحرب قال الشاعر:
والحربُ لا يَبقى لجا ** حِمها التّخيل والمِراحْ

إلاّ الفتى الصَّبَّار في ** النّجدات والفَرس الوَقاحْ

. اهـ.

.قال الخازن:

{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا} لما ذكر الله عز وجل الوعد لمؤمني أهل الكتاب وما أعد لهم من الجنات ذكر الوعيد لمن أقام منهم على كفره وتكذيبه وأطلق القول بذلك ليكون هذا الوعيد لهم ولمن جرى مجراهم في الكفر والتكذيب فقال والذين كفروا وكذبوا بآياتنا {أولئك أصحاب الجحيم}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} عطَفَ التكذيب بآيات الله على الكفر مع أنه ضربٌ منه لِما أن القصد إلى بيان حال المكذبين، وذكَرهم بمقابلة المصدِّقين بها جمعًا بين الترغيب والترهيب. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}.
عطف التكذيب بآيات الله تعالى على الكفر مع أنه ضرب منه لما أن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم بمقابلة المصدقين بها ليقترن الوعيد بالوعد وبضدها تتبين الأشياء. اهـ.

.قال محمد أبو زهرة:

وكلمة الذين كفروا تشمل من كانوا من أهل الكتاب ومن كانوا من غيرهم؛ لأن السبب في ذلك الجزاء الأليم يتحقق في النوعين: إذ كلاهما كفر بالحق لما جاءه، وكلاهما كذب آيات الله تعالى التي ساقها للدلالة على رسالة الرسول، وحيث تحقق السبب تحقق المسبب لا محالة، وهو العذاب الأليم الدائم.
هدانا الله إلى الحق، وإلى صراط الله العزيز الحميد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}.
هذا تتميم واحتراس، أي والذين كفروا من النصارى وكذّبوا بالقرآن هم بضدّ الذين أثابهم الله جنّات تجري من تحتها الأنهار.
وأصحاب الجحيم ملازموه.
والجحيم جهنّم.
وأصل الجحيم النار العظيمة تجعل في حفرة ليدوم لهيبها.
يقال: نار جَحْمة، أي شديدة اللهب.
قال بعض الطائيين من الجاهلية من شعراء الحماسة:
نَحن حبسنَا بني جَديلةَ في ** نار من الحرب جَحْمَةِ الضرم

. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)}.
ثم وصف شدة شكيمة اليهود ولين عريكة النصارى فقال: {لتجدن} يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب {أشد الناس عداوة} وقد تعلقت بها اللام في قوله: {للذين آمنوا} كما تعلقت بالمودة فيما بعد. وظاهر الآية يدل على أن اليهود في غاية العداوة للمسلمين وكيف لا وقد نبه على تقدم قدمهم في العداوة بتقديمهم على الذين أشركوا وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله» لكنه روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي أن المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على رسول لله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين. وقال آخرون: مذهب اليهود أنه يجب عليهم ايصال الشر الى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان، بالقتل أو بغصب الماء أو بوجوه المكايد والحيل، وليس النصارى مذهبهم ذلك بل الايذاء في دينهم حرام وهذا هو وجه التفاوت بالعداوة والمودة، وقد أكد ذلك بوصف العداوة والمودّة بالأشد والأقرب. وفي الآية من الفائدة أن التمرد والمعصية عادة لهم ففرغ قلبك يا محمد ولا تبال بمكرهم ولا تحزن على كيدهم. ثم ذكر سبب ذالك التفاوت فقال: {ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانًا} القس والقسيس اسم لرئيس النصارى في العلم والدين وكأنه من القس وهو تتبع الشيء وطلبه. قال قطرب: هو العالم بلغة الروم وهذا مما وقع فيه الوفاق بين اللغتين. وقال عروة بن الزبير: ضيعت النصارى الإنجيل وأدخلت فيه ما ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين يسمى قسيسًا، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس. والرهبان جمع راهب كركبان وفرسان في راكب وفارس. وقيل: إنه واحد وجمعه رهابين كقربان وقرابين ولكن النظام يأباه. وأصله من الرهبة بمعنى الخوف من الله تعالى، وإنما صارت الرهبانية ممدوحة في مقابلة قساوة اليهود وغلظتهم وإلا فهي مذمومة في نفسها لقوله تعالى: {ورهبانية ابتدعوها} [الحديد: 27].
ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا رهبانية في الإسلام» وههنا نكتة هي أن كفر النصارى حيث إنهم ينازعون في الإلهيات والنبوات جميعًا أغلظ في الحقيقة من كفر اليهود لأنهم لا ينازعون إلا في النبوات إلا بعضهم القائلين بأن عزيرًا ابن الله. ثم إن النصارى لما يشتد حرصهم على طلب الدنيا وعلى الحياة وأقبلوا على العلم والبراءة من الكبر خصهم الله تعالى بالمدح وذم اليهود حيث قال: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} [البقرة: 96] {غلت أيديهم} [المائدة: 64] فتبين صحة قوله صلى الله عليه وسلم «حب الدنيا رأس كل خطيئة» قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود في رهط من أصحابه الى النجاشي وقال: أنه ملك صالح لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا اليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجًا.
فلما وردوا عليه أكرمهم وقال لهم: هل تعرفون شيئًا مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم. فقرؤا وحوله القسيسون والرهبان فكلما قرؤا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق. وقال آخرون: قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة هو وأصحابه ومعهم سبعون رجلًا بعثهم النجاشي وفدًا الى الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ثياب الصوف؛ اثنان وستون من الحبشة وثمانية من من أهل الشأم وهم بحيرا الراهب وأبرهة وغيرهما، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا وآمنوا فنزلت والخطاب في {ترى} لكل راء. وقد وضع الفيض الذي هو مسبب الامتلاء موضع الامتلاء وأصله تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض بعد الامتلاء، ويحتمل أن يكون الدمع مصدر دمعت عينه وقصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء كأنّ الأعين تفيض بأنفسها. ومعنى {مما عرفوا من الحق} أي مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الحق فـ«من» الأولى لابتداء الغاية على أن فيض الدمع نشأ من معرفة الحق، والثانية للبيان ويحتمل التبعيض يعني أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوا كله وأحاطوا بالسنة؟ {ربنا آمنا} المراد إنشاء الايمان لا الإخبار عنه {فاكتبنا مع الشاهدين} مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد مر مثله في آل عمران. {وما لنا} إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع حصول موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بإدخالهم دار ثوابه مع الصالحين. قالوا ذلك في أنفسهم أو فيما بينهم أو في جواب قومهم حين رجعوا إليهم ولاموهم. ومحل {لا نؤمن} نصب على الحال نحو: مالك قائمًا. والعامل فيه معنى الفعل أي ما نصنع غير المؤمنين. وهو العامل أيضًا في {ونطمع} لكن مقيدًا بالحال الأولى لأنك لو حذفتها وقلت: وما لنا ونطمع لا حلت، ويحتمل أن يكون {ونطمع} حالًا من {لا نؤمن} كأنهم أنكروا أن لا يوحدوا الله وهم يطمعون في الثواب وأن يكون عطفًا على {لا نؤمن} أي ما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع، أو ما لنا لا نجمع بين الإيمان وبين الطمع {فأثابهم الله بما قالوا} ظاهرة يدل على إنهم إنما استحقوا الثواب بمجرد القول، ولكن فيما سبق من وصفهم بمعرفة الحق ما يدل على خلوص عقيدتهم فلا جرم لما انضاف إليه القول كل الإيمان. ويحتمل أن يكون مأخوذًا من قولك: هذا قول فلان أي اعتقاده ومذهبه. وروى عطاء عن ابن عباس أن المراد بما سألوا من قولهم فاكتبنا مع الشاهدين.
قال أهل السنة: فيه دليل على أن المعرفة مع الإقرار توجب حصول الثواب، وصاحب الكبيرة له المعرفة والإقرار فلابد أن يؤل حاله إلى هذا الثواب. والمعتزلة سلموا أن الإقرار مع المعرفة يوجب الثواب ولكن بشرط عدم الإحباط. اهـ.